اوراق قانونية | القانون في مصر بين الحاجة المجتمعية، والتشريع بالقطعة

وسوم : - - -

أوراق قانونية

القانون في مصر بين الحاجة المجتمعية، والتشريع بالقطعة

اعداد

أ /  طارق عبد العال

المحامي والخبير الحقوقي

 

يمكن تحميل الورقة كاملة من هنا

مقدمة:

لما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة وفي قوانينها، ولا تتحقق بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية بشأن تلك الحقوق والحريات، بل في نظام حكم يعترف، في إطار قانوني وتطبيقي، بحق المواطنين بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي يقوم على مفهوم المواطنة، هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية- دولة القانون- التي تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيوداً على الدولة.

ولكي يقوم نظام الحكم هذا من خلال قواعده ومؤسساته بعمله على وجه سليم، يتطلب ذلك ضمانات تتلخص في المبادئ الآتية:

  • سيادة القانون
  • الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية
  • الفصل بين السلطات
  • استقلال السلطة القضائية
  • تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين
  • تقرير الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها.

من هنا، فإن مفهوم دولة القانون، يتجسد في هذه المبادئ، تتقدمها سيادة القانون وخضوع سلطة الحكم للقانون كمثل خضوع المحكومين له. وما يقيد سلطة الحكم دستور يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويقرر حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم. وبهذا يتحقق للأفراد مركز قانوني في مواجهة سلطة الحكم يكون ضماناً لهم في حرياتهم وحقوقهم. والقانون الذي تكون له السيادة في دولة القانون يجب أن يكون صادراً عن مجلس منتخب من الشعب، ولا يكون مخالفاً للدستور أو منطوياً على انحراف في استعمال السلطة التشريعية. وإذا لم يؤخذ بهذا المفهوم القانوني، عندئذ ينتفي معنى ومضمون دولة القانون.

ومن المبادئ المسلمة في خصوص الحريات والحقوق العامة التي نص الدستور على تنظيمها بقانون أنه إذا خول الدستور للمشرع سلطة تقديرية لتنظيم تلك الحقوق فيجب على المشرع ألا ينحرف عن الغرض الذي قصد إليه الدستور وهو كفالة ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية فإذا نقضها المشرع أو انتقص منها وهو في صدد تنظيمها كان تشريعه مشوباً بالانحراف.. والقاعدة أن كل حق عام أوكل الدستور إلى المشرع تنظيمه بقانون فقد رسم الدستور للقانون الذي ينظمه غايات مخصصة لا يجوز للمشرع الانحراف عنها. ومن صور الانحراف في استعمال السلطة التشريعية مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا. و في واحد من أهم أحكام المحكمة الدستورية العليا، وهو الحكم رقم  114 لسنة  21 قضائية قالت فيه المحكمة أن ” وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية – في الدولة القانونية – هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف. ثم أردفت بقولها أن فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً “.

وإذ لاشك في كون النظم القانونية المحترمة يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفيك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.

  1. أساسيات القوانين:

لما كان القانون يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟ إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجيا، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر “إيدغار موران” بقوله إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوع من العلاقة الوجودية بين القانون والمجتمع، فالمجتمع ينتج القانون وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها وكذا الكوابح التي ينهجها.

وإذ  القانون يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟ إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجيا.

إن دولة الحق والقانون هي دولة مجتمع حيث تكون كل السلطات، بما فيها سلطة تكييف القوانين ومراقبة تطبيقها، خاضعة لمبدأ الشرعية. وبالتالي فمسلسل بلورة القوانين يكون محددا ومشروطا دستوريا بحيث لا يمكن لأية قاعدة قانونية أن تنفلت بعيداً عن هذا المبدأ، وهذا ما ينعكس بالطبيعة على كيفية بناء القاعدة القانونية، ومدى توافقها مع المعايير الدستورية، ولا يكون ذلك من حيث شكل صناعة القانون فقط، بل يجب أن يكون ذلك متناسباً مع الاحتياجات المجتمعية ومتوافقا ومتماشيا مع طموح المجتمع، متناسبا مع كم التطورات التي تنال المجتمعات، ويستحق المجتمع أن يكون بينها.

وإذا كان يُقصد بمفهوم القانون مجموعة القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع بمراحلها المختلفة ، وأنه من المفترض أن تكون النصوص القانونية ناتجة عن احتياجات المجتمع، وبالتالي يجب أن يخرج التشريع بعد نقاشا عموميا من الجماعات المخاطبة بأحكامه، وذلك لوقوف على مدى احتياجهم، وألا تكون صناعة القانون منفصلة عن الاحتياج المجتمعي أو منفصلة عن المجتمع، حيث يمثل القانون ظاهرة اجتماعية تفرضه دوما احتياجات المجتمع، وهذا ما يعني أن لا يتم فرض القانون جبراً على المواطنين المخاطبين بأحكامه من خلال سطات جبرية أو من خلال جماعات فوقية من خلال تحكميتها في إطار ومنظومة التشريع، سواء من خلال السيطرة على المجلس التشريعي، أو فرض قوتها على الهيئة التشريعية بشكل أو بآخر، وتجدر الإشارة إلى أن الضغط الذي تمارسه هذه الجماعات لا تمارسه فقط على البرلمان بل تمارسه أيضا على الجهاز الحكومي على حد سواء، فهذا الوضع يجعل القاعدة القانونية أو النصوص القانونية على العموم وسيلة لتحقيق المصالح ،بحيث تسقط في دواليب الصراع حول هذه الأخيرة بين بعض الجهات المهنية كالجمعيات المهنية والنقابات، إذ أنه من المتعارف عليه بين أوساط الباحثين والمهتمين والمختصين في علم الاجتماع القانوني والعلوم المساعدة للقانون ،هو أن وجود القانون وخروجه إلى حيز الوجود في كل مجتمع  هي ضرورة تمليها الإرادة العامة للمجتمع المنظم، بحيث يكون القانون هو المرآة العاكسة للمبادئ والقيم  التي يؤمن بها أفراد هذا المجتمع. وقد عبرت عن ذلك محكمتنا الدستورية العليا بقولها في الدعوى: أنه يجب أن يقتصر العقاب الجنائي على أوجه السلوك التي تضر بمصلحة اجتماعية ذات شأن لا يجوز التسامح مع من يعتدي عليها، ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها، أو التخلي عن تلك التي ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيا أن يُحدد من منظور اجتماعي ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفا للدستور، إلا إذا كان مجاوزاً حدود الضرورة التي اقتضتها ظروف الجماعة في مرحلة من مراحل تطورها”.[1]

  1. سلطة صناعة القانون :

الأصل العام هو أن صناعة التشريعات، أو بمعنى أقل حدة صياغة التشريعات، هو أهم اختصاصات مجلس النواب، وذلك بحسب نص الدستور المصري في مادته رقم 101، والت جعلت من مجلس النواب هو سلطة التشريع الأساسية[2]، وهو الوظيفة الرئيسية لأعضاء مجلس النواب، وذلك بوصفهم ممثلين عن كافة الطوائف الشعبية، بحسب التمثيل الجغرافي للدوائر الانتخابية، وبالتالي فهؤلاء الأعضاء هم الأدرى باحتياجات الشعب من قوانين أو تعديلات تشريعية، ولكن لابد في هذا المقام بأن الدستور لم يجعل لمجلس الشيوخ دوراً رئيسياً في العملية التشريعية، سوى الرأي الاستشاري فقط بما يُحال إليه من قوانين لإبداء الرأي فيما يحال إليه من مشروعات قوانين، سواء كانت الإحالة عن طريق البرلمان أو من خلال سلطة رئيس الجمهورية المخولة إليه.[3]

ولا تقف حدود السلطة التشريعية عند ذلك فقط، بل إنها تمتد لتشمل تلك الصلاحيات التشريعية التي خولها الدستور لرئيس الجمهورية، حال غياب مجلس النواب أو عدم انعقاده، حيث أباحت له النصوص الدستورية منذ زمن ليس بالقريب أن تكون لرئيس الجمهورية سلطة أو صلاحية إصدار قرارات لها فوة القانون، حال غياب السلطة التشريعية الأساسية أو عدم انعقادها، على أن يتم عرض تلك القرارات بقوانين عند اجتماع البرلمان لأخذ لراي والمناقشة فيما أصدره رئيس الدولة حال غيابه.[4]

ومما يحسب للدستور المصري الأخير أنه قد نص على ان يتم عرض ما أصدره رئيس الجمهورية من قرارات لها قوة القانون خلال أسبوعين من أول اجتماع له للعرض والمناقشة وأخذ الرأي في تلك القرارات. وفي الحقيقة فقد افرطت السلطة التنفيذية في استخدام تلك الصلاحية الدستورية فيما قبل انعقاد البرلمان وأصدرت العديد من القرارات بقوانين، والتي بالفعل تم عرضها على مجلس النواب خلال الأمد القانوني المنصوص عليه، وقد اقرها جميعها بشكل متسرع، ولا يتناسب مع العدد الكبير لهذه القرارات، حتى وإن كان البعض منها لا يتناسب مع حقيقة الإباحة الدستورية المعتبرة في شرطي الضرورة والاستعجال اللذان يمثلان الحقيقة الدستورية من وراء لاستخدام هذه المكنة الدستورية، أو الدعيان لاستخدامها، ولكن دونما إفراط من غير ضرورة ملحة، أو من غير حاجة مستعجلة.[5]

وتسير معظم الدساتير العالمية على استخدام هذه الصلاحية المتمثلة في تخويل رئيس الجمهورية سلطة إصدار قرارات بقوانين حال غياب السلطة التشريعية، ولكن وفق شروط قد تكون منحازة بشكل أكثر لصالح الحقوق والحريات، أو بشكل أعم لصالح دولة القانون، فعلى سبيل المثال فقد منع الدستور الإسباني على رئيس الجمهورية في هذه الأحوال أن يتطرق إلى تشريعات تتعلق بحقوق المواطنين أو حرياتهم الأساسية، أو ما يتعلق بكيان الدولة.[6] كما أن الدستور البرازيلي قدد حدد مجالات تشريعية بعينها لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تطرق إليها حال استخدامها لسلطة التشريع الاستثنائي، المخول لها بمقتضى أحوال الضرورة، وهذه الحالات هي: القوانين المتعلقة بالجنسية والمواطنة والحقوق الانتخابية، القوانين الجنائية والإجرائية، والقوانين المتعلقة بتنظيم الجهاز القضائي.

لكن الدستور المصري لم يضع حداً مانعاً أو قيداً واقفاً لسلطة رئيس الجمهورية التشريعية الاستثنائية، وهو الأمر الذي يدفعنا على اللجوء على المزيد من المعرفة الفقهية أو القضائية، فإذا كان مقتضى مبدأ المشروعية هو خضوع الدولة للقانون، لكنه يتعرض في ظل الظروف الاستثنائية إلى قدر من التعديلات التي تستوجب منح السلطة التنفيذية سلطة التشريع الاستثنائي. وتعد فكرة الضرورة المعبرة عن الظروف الاستثنائية معبرة عن توافر حالة واقعية تتمثل في إحدى الظروف الاستثنائية التي تتنوع أحوالها مثل حالة الحرب، والطوارئ، والاستعجال، أو أنها كما عبر الفقه القاني هي تشريعات تصدر في ظل ظروف يصعب تصورها أو أحوال تقتضي الإسراع في استصدارها.[7]

وقد تعرض القضاء لهذا النوع الاستثنائي من التشريع، فقد أُتيحت الفرصة مبكراً للقضاء المصري ومن قبل إنشاء مجلس الدولة المصري للتطرق إلى هذا الموضوع ، وقد أتجه القضاء المصري بصيغة عمومية نحو الاعتداد بالظروف الطارئة أو الضرورة كسبب مبرر للخروج على أحكام المشروعية العادية واللجوء للمشروعية الاستثنائية، وذلك إذا ما طرأت احوال تنذر بخطر على الأمن العام أو الصحة محدقاً ومهدداً ، بحيث يوجب العمل بشكل سريع لمجابهة ذلك الخطر، وذلك باتخاذ اجراءات عاجلة عن طريق السلطة التنفيذية بما لها من سلطان وبما عليها من الواجبات التي تحتم عليها أن تسهر على استتباب الأمن وحماية الأموال والأرواح، وحينئذ لا يعد مخالفا للقانون ما يُتخذ من اجراءات عاجلة لم تعمل لغاية سوى مصلحة جمهور المواطنين، ولم يشبها سوء استعمال للسلطة أو تعسف أو عدم العناية والحرص في تنفيذها.[8]

وقد عبرت عن ذلك المحكمة الدستورية العليا في العديد من الأحكام منها ما جاء فيه: “أنه وإن كان لرئيس الجمهورية سلطة التشريع الاستثنائية طبقا للمادة المشار إليها وفق ما تمليه المخاطر المترتبة على قيام ظروف طارئة تستوجب سرعة المواجهة وذلك تحت رقابة مجلس الشعب ، إلا أن ذلك لا يعني إطلاق هذه السلطة في إصدار قرارات بقوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور ، والتي سبق أن استظهرتها المحكمة ومن بينها اشتراط أن يطرأ – في غيبة مجلس الشعب – ظروف من شانها توافر الحالة الداعية لاستعمال رخصة التشريع الاستثنائية ، وهو ما لم تكن له قائمة بالنسبة للقرار بقانون المطعون عليه الأمر الذي يُحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية”.[9]

  1. أزمة التشريع في مصر:

لا يزال أمر التشريع في مصر محيراً، على الرغم من التنظيم الدستوري له بأن يتولاه مجلس النواب بشكل أساسي، إلا أن هيمنة السلطة على أمور التشريع بشكل واضح تُعد هي العامل الأكبر في استخدام آلية سن القوانين، سواء عن طريق النفاذ إلى التشريع عن طرق تقدم الحكومة بمشروعات القوانين، بشكل أصبح هو الأساسي في ظل مجلس النواب السابق او الحالي، أو من خلال استخدام كتلتها التصويتية الممثلة في الأحزاب الموالية للسلطة في تمرير تلك القوانين أو في التقدم بمشروعات قوانين من خلال أعضائها، وهو الأمر الذي يجعل من سلطة التشريع أمراً لا يخرج عن عبأة السلطة السياسية الحاكمة أو عن رغبتها، ولم يحقق البرلمان المصري طموحات أو آمال الشعب في إعمال رقابة حقيقية على ما صدر من تشريعات قبل انعقاده، وهو ذات الأمر الذي ينطبق على غالبية الممارسات التشريعية.

ومن المعروف أن أية نصوص قانونية بما في ذلك النصوص الجنائية تُصبُ في قالب لغوي يحمل المعنى المراد وضعه في شكل قانون، ولكن هل من الممكن استخدام أية طريقة أو أي شكل لغوي وقت صياغة التشريع، أم أن للتشريعات وضعية ملائمة لخصوصيتها، فيجب استخدام أنماط معينة من اللغة، وطريقة محددة في التعبير عن القوالب القانونية. لابد حين استخدام اللغة للتعبير عن التشريع، بحسب أنها تشكل المخرج النهائي الذي تخاطب به السلطة التشريعية المواطنين، أن يتم ذلك في أطر محددة، حتى تصبح المعاني القانونية المراد إيصالها للأفراد قاطعة الدلالة، سهلة الفهم، لا تحتمل التأويل لأكثر من معنى، ولكن تبدو أهمية استخدام القوالب التشريعية بشكل أكبر حين صياغة النصوص العقابية، لما تحتويه أو تتضمنه هذه النصوص من أمور ذات حساسية عالية، لكونها تحتوي على ما يعني حرمان الأفراد من إتيان فعل محدد، واستخدام العقوبات المختلفة لمقترف نواهي هذه النصوص، ومن ثم وجب اتخاذ أبسط المعاني، وليس أعقدها، والبعد عن الصياغات المحتملة التأويل، وقد عبرت عن ذلك المعنى المحكمة الدستورية العليا بقولها ” أن الأصل في النصوص العقابية هو أن تصاغ في حدود ضيقة لضمان أن يكون تطبيقها محكما فقد صار من المحتم أن يكون تمييعها محظورا ، ذلك أن عموم عباراتها و اتساع قوالبها قد يصرفها إلى غير المقصود منها ، فيتعين أن يكون النص العقابي حادا قاطعا لا يؤذن بتداخل معانيه كي لا تنداح دائرة التجريم ، وتظل دوما في إطار الدائرة التي يكفل الدستور في نطاقها قواعد الحرية المنظمة”.[10]

ولا يقف الأمر عند حد الخطاب اللغوي بشكل رئيسي، ولكنه مكون من أهم مكونات الخطاب القانوني بشكل عام، ولكن يٌضاف ذلك إلى الآلية التي تستخدمها السلطة في تمرير مشروعات القوانين على النحو سالف البيان، كما أن أمر التشريع حسب الحاجة أو بحسب ما تجد مشكلة تنبري السلطة على استخدام القوانين كأسلوب علاجي وحيد لمواجهة أية ظاهرة تجد، ولا يكون ذلك سوى باستخدام الغلظة في العقاب، وهذا ليس بالأمر المحمود، حيث ان هنالك العديد من السبل الاجتماعية التي من الأوجب اللجوء إليها قبل الحلول العقابية. كما أن التسرع في استخدام الخطاب القانوني على نحو غير مدروس أو بشكل متسرع قد يوقع القوانين في حومة المخالفات الدستورية، أو على الأقل إلى الاحتياج إلى التدخل مرة او مرات متكررة لمعالجة ما يجد من أخطاء ظهرت في حال تطبيق تلك النصوص. ومن الأمثلة على التسرع في استخدام اللغة غير المتقنة في الخطاب التشريعي القانون رقم 141 لسنة 2021 بتعديل أحكام قانون العقوبات، وذلك بالنص على عقاب جريمة التحرش الجنسي بموجب نص المادة 306 مكرر أ، 306 مكرر ب ، إذ أن هذا القانون المستحدث قد تم استخدام اللغة الفضفاضة، التي لا تصلح كأساس للتجريم، وذلك فيما جاء النص على أنه :

مادة «306 مكرر أ»: «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز أربع سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية، أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية، أو أي وسيلة تقنية أخرى.”

وهذا التوسع الواضح من خلال عبارات هذا النص، قد تتيح الفرصة لعقاب من لا يستحق العقاب، فيكفي ما استخدمته المادة من قولها ” أو أي وسيلة أخرى” وهو ما يقطع بعدم التحديد، وهو ما يعيب النص الجنائي، إذ لابد أن تشمل تقنيات التجريم والعقاب باعتقادي مجموعة عناصر  ، كما استقر عليها الفقه الجنائي ،أولها خطاب الردع أو الزجر الذي تحتويه النصوص العقابية، وثانيها المصلحة الاجتماعية واجبة الحماية الجنائية، والعنصر الثالث هو مدى الدقة في صياغة النصوص القانونية العقابية وفي ما يتعلق بالخطاب الزجري للنصوص العقابية فلا بد من إعادة النظر فيه بتقليل منطق القسوة الذي تتضمنه هذه النصوص واعتماد مبدأ التدرج في العقاب وكذلك التنوع في صوره وزيادة فرص إعادة إدماج المعاقبين في المجتمع بعد تأهيلهم انطلاقاً من مبدأ قدرة الدولة على استعادة أبناءها بإعادة تأهيلهم ودمجهم ثانية في بوتقة المجتمع وإعادتهم لمنظومتها الاجتماعية كأعضاء إيجابيين، والعنصر الثاني المتمثل بالمصلحة الاجتماعية واجبة الحماية فإن اغلب التشريعات اتجهت إلى الصيغ العمومية والسياسة الاحتوائية في إطلاق قائمة المصالح المحمية قانونياً ولم يكن تحديد تلك المصالح نوعياً وبحسب أولويات المجتمع ما زاد من مساحة الأفعال المجرمة قانوناً على حساب نوعها وزاد من عدد المجرمين، أما العنصر الثالث فيتمثل بضرورة توخي الدقة في صياغة النصوص القانونية والتزام الوضوح في مضامينها لتقليص مساحة التأويل والاجتهاد ولتجنيب السلطة القضائية المسؤولة عن تطبيق النص تبعة كشف أو تفسير ما يعتريه من غموض و إمكانية تأويل حتى لا يعيش القضاة القائمون على تطبيق النص ما يسمى بمعركة تأويل النص، وهذا ما قالت عنه المحكمة الدستورية العليا المصرية بقولها ” إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية – في الدولة القانونية – هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائماً استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطاراً منطقياً للدائرة التي يعمل فيها، كافلاً من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادماً مع مقاصده أو مجاوزاً لها، ومناهضاً – بالتالي – لمبدأ خضوع الدولة للقانون”[11]

  1. التشريعات الجنائية ما بين الحاجة والاستخدام القصدي:

في الأصل العام الذي تقوم عليه التشريعات الجنائية في كل الفلسفات والمدارس الجنائية والعقابية هو تأسيسها على أن الأصل في الإنسان البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو استثناء من القاعدة الأصلية، كما أن كافة التشريعات الجنائية الحديثة قد استقرت على مجموعة من القواعد الأصولية، وأقرتها كذلك الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وإن كانت التشريع الإسلامي قد سبقها في ذلك وتلك الأصول تدور حول عدم جواز معاقبة غير المتهم، وأن العقوبة شخصية ، وهو ما جاء في القران الكريم بقول المولى سبحانه ” ولا تزر وازرة وزر أخرى “، وهو ما يتأصل عنه ويندرج تحت أساسه أن العقوبة يجب أن تتوان مع حجم الجريمة وطأتها، وهو ما عبر عنه فقهاء القانون الجنائي بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب. وقد اتجهت معظم  التشريعات العالمية إلى التقليل وعدم الإفراط بقدر المستطاع في استخدام العقوبات السالبة للحرية لعدم جدواها في بعض الأحيان، ولتخفيف التكدس بالسجون، لدرجة أن بعض الدول، مثل هولندا وألمانيا تستخدم نظام قوائم الانتظار، والذي يسمح للإدارة العقابية بعدم التنفيذ الفوري لعقوبة السجن، ويبدأ هذا التنفيذ عند انتهاء محبوسين آخرين من تنفيذ عقوبتهم، كما منحت معظم التشريعات الجنائية الحديثة للقاضي الجنائي سلطة الأمر بإيقاف تنفيذ عقوبة السجن، تجنبًا لآثارها الضارة في الحالات التي يقدر فيها القاضي ذلك، وقد سعت تلك التشريعات إلى إتاحة بدائل لسلب الحرية، وهو ما يدل على أن السياسة العقابية الحديثة، تسعى بقدر المستطاع إلى تقليص دور العقوبات السالبة للحرية، ولا يتم اللجوء إليها إلا في حالات خاصة وباشتراطات معينة تقتضيها الضرورة.

وقد عرف المجتمع البشري ضرورة مواجهة الظاهرة الإجرامية، وكان ذلك وفقا لما هو سائد من ثقافات أو أعراف أو ديانات. ومن ثم فقد تطورت الظاهرة الإجرامية تبعا لتطور السلوك البشري، وهو ما ألجاء المجتمعات لمسايرة تطورات الجريمة بما يناسبها من سبل لمجابهتها وفقا لرؤية المجتمع للجريمة، وكيفية مواجهة مرتكبها، وكان ذلك هو الأساس الفعلي لنظرية أو مبدأ ” الشرعية الجنائية ” أو مبدأ قانونية الجريمة والعقاب. ومفاد هذا المبدأ، أن أي فـعـل لا يمكن اعتباره جريمة تترتب عليه عقوبة إلا إذا نص القانون على اعتباره جريمة معاقباً عليها، وبخلاف ذلك فان كل فـعـل لـم تحدد أركانه بوضوح في نص وتوضع لـه عقوبة مقررة، لا يمكن أن يعاقب فاعله. لأن الأصل فـي الأشياء الإباحة، وكل فعل لـم يجرم صراحة بنص، لا يجوز المعاقبة عليه ولو خرج على القواعد الأخلاقية وقيم المجتمع. وهذه هـي دولة القانون.

وتقوم فلسفة مبدأ قانونية الجريمة والعقاب وتتمحور حول فكرة أساسية مفادها الموازنة بين المصلحة العامة والحريات العامة وتهدف في آن واحد إلى حماية المصلحة العامة وحماية الحريات الفردية. كما تتجسد حماية المصلحة العامة في إسناد وظيفة التشريع إلى المشرع وحده تطبيقاً لمبدأ انفراد المشرع بالاختصاص التشريعي في تنظيم الحقوق والحريات العامة لتكون بيد ممثلي الشعب لا بيد رجال السلطة التنفيذية، بينما تتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الأفراد بما هو غير مشروع من الأفعال قبل الإقدام عليها بما يضمن لهم الطمأنينة والأمن الشخصي ويحول بذلك دون تحكم القاضي بحرياتهم الشخصية.

ولكن تثور المشكلة في مدى احترام السلطات لهذا المبدأ، ومدى توافقها في إصدار تشريعاتها مع ضرورة الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم، وضرورة التجريم صونا لحقوق الأفراد والمجتمعات من زاوية ثانية، كما تبدو المشكلة أكثر صعوبة في كيفية صياغة التشريعات العقابية، واحترامها للمبادئ والقيم الدستورية والتي يبدو أهمها في هذا المقام هو ” التناسب ما بين الجرم والعقاب”، وان تتفق أو تتساند النصوص العقابية مع الدستور والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق وحريات المواطنين.

ويجب أن تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح. فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة. ولكن ذلك لا يعني إطلاق يد الدولة ممثلة في سلطتها التشريعية في تجريم ما يعن لها من أفعال دونما أية ضابط لذلك، وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن ذلك المعنى بقولها :- “ أن الأصل في النصوص العقابية هو أن تصاغ في حدود ضيقة لضمان أن يكون تطبيقها محكما فقد صار من المحتم أن يكون تمييعها محظورا ، ذلك أن عموم عباراتها و اتساع قوالبها قد يصرفها إلى غير المقصود منها ، فيتعين أن يكون النص العقابي حادا قاطعا لا يؤذن بتداخل معانيه كي لا تنداح دائرة التجريم ، وتظل دوما في إطار الدائرة التي يكفل الدستور في نطاقها قواعد الحرية المنظمة”[12].

وفى عام 1937 قرر المؤتمر الدولي الرابع للقانون الجنائي في باريس التمسك بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات واستبعاد القياس عند تفسير نصوص التجريم وأوصى بصياغة النصوص في عبارات مرنة تسمح للقاضي عند تطبيقها مراعاة تطور الحياة الاجتماعية وظهرت قاعدة جديدة للتفسير هي ” التفسير الكاشف أو المقرر”. وقد استقر الفقه على أن التجريم المقرر بالقاعدة القانونية الجنائية مرده إلى الضرورة الاجتماعية، وأن هذه الضرورة التي تقرر الجزاء المنصوص عليه في القاعدة القانونية الجنائية، تتبلور في ملاءمة المصلحة محل الحماية مع القواعد الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع ن ولا يتصور أن يتم السلوك بعيداً عنها، والضرورة الاجتماعية المبررة للتجريم ليست ثابتة أو جامدة، بل متغيرة بتغير الظروف وتطور المصالح والقيم في المجتمع[13].

وكما يتقيد التقدير في عمل السلطة التشريعية بنوع الأغراض التي يتوخاها فإن هذا التقدير يتقيد كذلك بحقيقة أن المشرع حين يوازن ويفاضل بين البدائل إعمالاً لسلطته في التقدير، فإن عليه أن يختار بين البدائل أنسبها ” لتحقيق أغراضه وأقلها تقييداً للحرية وأكفلها لأكثر المصالح ثقلاً في مجال ضمانها”. كل ذلك بافتراض مشروعية البدائل جميعاً واتصالها بالحقوق محل التنظيم، إذ لا يجوز تنظيم الحقوق لغير مصلحة واضحة لها اعتبارها.[14] وفي قول أشد وطأة للمحكمة الدستورية بقولها :- ” أن القانون أداة تحقيق العدالة، فلا يكون القانون منصفاً إلا إذا كان كاملاً لأهدافها، فإذا ما زاغ المشرع ببصره عنها، وأهدر القيم الأصلية التي تحتضنها، كان منهيا للتوافق في مجال تنفيذه، ومسقطاً كل قيمة لوجوده، ومستوجبا تغييره أو إلغاءه “.[15]

والتساؤل الرئيسي لهذه الورقة البحثية، هل تتماشى السلطة التشريعية بكامل طاقتها في استخدام الأصول التشريعية حال اتجاهها نحو استحداث قواعد تجريمية او عقابية جديدة، أو تعديل نصوص قائمة بالفعل، أم أن الأمر يسير حسب اتجاهات سياسية بعيدة عن كل القواعد أو النسق المتعارف عليها، وأنها تقوم بتخديم القوانين لإرادتها الحاكمة بما يخلو من المنطق أو العلة المستوجبة لاستخدام آلية التشريع أو سن القوانين؟

يبدو ان الأمور حال محاولاتنا الإجابة على هذا التساؤل تسير في الاتجاه المعاكس، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة، فقد دأبت السلطة على استخدام القوانين كآلية حال الاحتياج، كنموذج للتعديل او التشريع بالقطعة، خصوصاً في المجالات العقابية. فغذا حاولنا أن نلقي الضوء على بعض الاستخدامات التشريعية خلال هذه الفترة، سوف نلاحظ السرعة في الإصدار، والسرعة في التعديل، سواء كان ذلك في توسيع النموذج التجريمي، أو في الإفراط في العقوبة، وهو الأمر الذي يتعارض مع دور مبدأ التناسب ، حيث يمثل معياراً لتحقيق التوازن وضماناً لوحدة النظام القانوني في حمايته للحقوق والحريات، ويقتضي وجود علاقة منطقية بين مختلف القواعد القانونية وبين مختلف العناصر التي تتكون منها القاعدة القانونية، وتحديد المعاملة الواجبة حسب ما تقرره القاعدة من وسائل لاستعمال الحقوق والحريات ، وفي تحقيق الهدف منها ، كما هو الحال في جريمة الاعتداء على النفس أو المال ، فإن الحق في الدفاع الشرعي المقرر لمواجه هذا الاعتداء قائم على أساس التناسب بين الاعتداء الحاصل والدفاع القائم عن هذه الحقوق [16].

وإجمالاً فقد استقر الفقه على أن هناك حدود وجب عدم تجاوزها حين التشريع في أمر من أمور الحقوق والحريات، وكما ذكر أستاذنا د / أحمد فتحي سرور في مقدمة مؤلفة القانون الجنائي الدستوري :-

“أن الدولة القانونية بحكم وظيفتها عليها أن تحمى جميع المصالح القانونية، وهى ليست قاصرة على الدولة وحدها بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد وحرياته، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون ، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين في إطار العلاقات الاجتماعية التي تحكم المجتمع . وقد عنى الدستور المصري ضمانا لحماية الحقوق والحريات بأن ينص في المادة 57 منه على أن الاعتداء على هذه الحقوق والحريات جريمة لا تسقط دعواها الجنائية ولا المدنية بالتقادم، وأن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء “.

ومن أهم الأمثلة الحديثة على ذلك ما جاء بالقانون رقم 175 لسنة 2018 ، والمعروف بقانون تجريم القيم الأسرية، ويكفي أن نشير إلى الفقرة التي رود فيها أنه :”  كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياه الخاصة “.

ويتضح من النص المُعنوَن بحماية حرمة الحياة الخاصة أن المُشرِّع قد حدد أربع صور لأشكال الجريمة التي من الممكن أن تُمثِّل انتهاكًا للحق في الخصوصية، وهو ما يعني أن نص المادة 25 “جريمة الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية” لا يُمكن تفسيره بأي حال خارج سياق حماية الحق في الخصوصية، التي هي من المفترض أن تكون الهدف الرئيسي من إقرار ذلك القانون كما أشارت المذكرة الإيضاحية والتقرير البرلماني المُشترك، وللسياق الخاص الذي تم تناول الجريمة من خلاله، فالفصل الثالث من القانون رقم 175 لسنة 2018 ونص المادة 25 من القانون ذاته مُخصصين بالأساس لحماية الحياة الخاصة، وهو ما يعني أن المُشرع أراد التوسع في صور حماية هذا الحق خشية التطور التكنولوجي وظهور صور مختلفة للأفعال التي قد تكون غير قانونية والتي التي يصعب حصرها، لذلك جاء نص المادة محتويًا على صور عامة للاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والتي استخدم المُشرع خلالها لفظ “الاعتداء على القيم والمبادئ الأسرية“.

ومن هنا نستطيع أن نوجز القول بأن هذا النص بما ورد فيه من ألفاظ عامة”  كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياه الخاصة “.  يستحيل ضبطها، ويسهل تأويلها والتحميل عليها بأكثر من معنى، وبالتالي فهي تبعد كل البعد عن أي معايير فقهية أو دستورية منظمة لحدود التجريم، وبالتالي القدرة على إخراج الفعل من دائرة المباح إلى دوائر الحظر والتجريم، وهي ما يقتضي أن يُفرض عليها عقوبات.

  1. التدخل باستخدام التعديل التشريعي حسب الحاجة:

وهذا الأمر هو الأكثر خطورة على البنية التشريعية المصرية، حيث أنه يخالف كل الأصول التشريعية المتعارف عليها من أن يكون القانون سارياً أو صالحاً للسريان لفترة ليست بالقليلة، فإذا كان يقصد بمفهوم القانون مجموعة القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع بمراحلها المختلفة ، وأنه من المفترض أن تكون النصوص القانونية ناتجة عن احتياجات المجتمع، وبالتالي يجب أن يخرج التشريع بعد نقاشا عموميا من الجماعات المخاطبة بأحكامه، وذلك لوقوف على مدى احتياجهم، وألا تكون صناعة القانون منفصلة عن الاحتياج المجتمعي أو منفصلة عن المجتمع، حيث يمثل القانون ظاهرة اجتماعية تفرضه دوما احتياجات المجتمع، وهذا ما يعني أن لا يتم فرض القانون جبراً على المواطنين المخاطبين بأحكامه من خلال سطات جبرية أو من خلال جماعات فوقية من خلال تحكميتها في إطار ومنظومة التشريع، سواء من خلال السيطرة على المجلس التشريعي، أو فرض قوتها على الهيئة التشريعية بشكل أو بآخر، وتجدر الإشارة إلى أن الضغط الذي تمارسه هذه الجماعات لا تمارسه فقط على البرلمان بل تمارسه أيضا على الجهاز الحكومي على حد سواء، فهذا الوضع يجعل القاعدة القانونية أو النصوص القانونية على العموم وسيلة لتحقيق المصالح ،بحيث تسقط في دواليب الصراع حول هذه الأخيرة بين بعض الجهات المهنية كالجمعيات المهنية والنقابات، إذ أنه من المتعارف عليه بين أوساط الباحثين والمهتمين والمختصين في علم الاجتماع القانوني والعلوم المساعدة للقانون ،هو أن وجود القانون وخروجه إلى حيز الوجود في كل مجتمع  هي ضرورة تمليها الإرادة العامة للمجتمع المنظم، بحيث يكون القانون هو المرآة العاكسة للمبادئ والقيم  التي يؤمن بها أفراد هذا المجتمع. ولو أننا دققنا النظر في العديد من القوانين خلال العشر سنوات الأخيرة لوجدنا أن العديد منها قد طالته يد التعديل والتغيير بطريقة سريعة، وتلك التغييرات والتعديلات المستمرة توحي بعدم الثقة في حال صناعة القانون، وكأن الأمر قد أوكل لغير المختصين به، وهو في الأصل يتنافى مع ما يفترض في القوانين من صلاحيتها لسنوات ليست بالقليلة حيث يمثل القانون وسيله الانضباط في تسيير الحياة الاجتماعية بمختلف أنشطتها، كما أن هدف القانون هو تنظيم العلاقات الناشئة عن تعايش أكثر من شخص في مجتمع على قدر من التنظيم.

وأرى أن أنسب مثال يمكننا قوله في هذا المقام، هو ما طال قانون مكافحة الإرهاب من تعديلات على الرغم من حداثته، وقد أصدر رئيس الجمهورية القرار بقانون رقم 94 لسنة 2015بعنوان قانون مكافحة الإرهاب، ثم تم تعديله باستبدال نص المادتين رقمي 39 ، 40، وذلك بموجب القانون رقم 11 لسنة 2017 ، كما تم إضافة نص المادة 50 مكرر إلى نصوص قانون مكافحة الإرهاب، أي بما يعني عدم مرور عامين على الأكثر على إصدار القانون الأول، ثم صدر القانون رقم 15 لسنة 2020 متضمنا استبدال نص البن ” و ” من المادة الأولى بنص جديد، كما تم أيضا في ذلك القانون استبدال نص المادتين رقمي 3 و 13 بنصوص جديدة، ثم تم تعديله مرة جديدة بعد عام أو اقل من عام واحد، وذلك بموجب القانون رقم 149 لسنة 2021، والمنشور بالجريدة الرسمية بالعدد رقم 45 تابع في 11 نوفمبر 2021 ، وقد جاء هذا التعديل الأخير مستبدلاً نص المادتين رقمي 36 و 53 / فقرة أولى بنصوص جديدة.

ولسنا هنا في حالة تعليق على قانون الإرهاب بشكل أساسي، ولكننا فقط نتتبع كم التعديلات التي طالته خلال فترة لم تتجاوز سبع سنوات منذ صدور القانون رقم 94 لسنة 2015 ، وإن كانت الملاحظة الرئيسية على كم هذه التعديلات هي أنها جميعا جاءت لتصب في خانة التشدد في العقاب.

لكن هل كانت مدة السبع سنوات فترة زمنية تستأهل تعديل القانون خلالها لأربع مرات، وهذا الأمر جاء ليعيب صناعة القانون في مصر، حيث أن أولى مفترضات التشريع أن يكون صالحاً للسريان لفترة ليست بالقصيرة، وإذ أن القانون يجب حال صياغته وسنه من بعد اقتراحه ومروره بالطرق اللازمة حتى يخرج إلى الحياة المجتمعية يجب أن يكون صالحاً للحكم خلال فترة زمنية أقل الاشتراطات اللازمة فيها ألا تكون هذه المدة قصيرة، بحيث يحتاج المجتمع إلى تغيير النصوص التشريعية كل فترة زمنية قصيرة، وإن كان الأصل أن تكون القاعدة القانونية متماشية مع احتياجات المجتمع وقت صياغتها، إلا أنه لا يجب أن تكون هذه الفترة بالقصيرة بالشكل الذي لا ستناسب مع دوام القاعدة القانونية وعمومتيها، وإلا قد يؤدي ذلك إلى حالة من التخبط التشريعي، والسعي نحو تغيير النصوص القانونية خلال فترات قصيرة، وهو ما لا يتوافق مع خصائص القانون، حيث يجب أن يكون صناع القانون قد استهدفوا سريانه لفترات لا تتسم بالقصر الزمني، وعلى الرغم من كون ذا البعد الزمني لا يمكن تحديده، ولكن من البديهي أن نقول أنه كلما كانت الهيئة التشريعية قد استرعت كفة الاشتراطات اللازمة حال صياغة القانون، والتي أهمها التحاور المجتمعي، وأخذ رأي الجماعة المخاطبة بالنص التشريعي، علاوة على الاستعانة بالمتخصصين والخبراء و أولو الرأي في كل شأن.

وليس الأمر متعلقاً بنصوص قانون مكافحة الإرهاب بشكل خاص، ولكنه يتعلق بأزمة صناعة القوانين في مصر بصفة عامة، إذ أننا ولو دققنا النظر في العديد من القوانين خلال العشر سنوات الأخيرة لوجدنا أن العديد منها قد طالته يد التعديل والتغيير بطريقة سريعة، وتلك التغييرات والتعديلات المستمرة توحي بعدم الثقة في حال صناعة القانون، وكأن الأمر قد أوكل لغير المختصين به، وهو في الأصل يتنافى مع ما يفترض في القوانين من صلاحيتها لسنوات ليست بالقليلة حيث يمثل القانون وسيله الانضباط في تسيير الحياة الاجتماعية بمختلف أنشطتها، كما أن هدف القانون هو تنظيم العلاقات الناشئة عن تعايش أكثر من شخص في مجتمع على قدر من التنظيم.

وبشكل عام أرى أن صناعة القوانين في مصر لا تتم بشكل علمي سليم، وأنها في السنوات الأخيرة ليست معنية سوى بتغليظ العقوبات كأسلوب للردع العقابي، لم يعد يجد قبولا لدى الفقه الجنائي الحديث، ولم يعد هو الأسلوب أو الطريقة الوحيدة المتبعة في التشريعات الجنائية العقابية، وبشكل أخص في الأمور التي تتعلق بالحقوق والحريات ، كما أن طريقة سنها لم تتفق والأصول العامة لكيفية صناعة القوانين، فلا تكفي مدة يومين أو أسبوع لعرض مشروعات مجهزة سلفا دونما عرض على المختصين أو مشاركة مجتمعية أو طرحها لنقاش على مستوى قاعدي عريض.

ولاشك في كون النظم القانونية المحترمة يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفيك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.

ومن زاوية ثانية فإن التشريعات التي تخالف تلك القواعد، أو يتم صياغتها لملاحقات متعلقة بظروف قد تكون مؤقتة، أو تناسب ظرف معين أو حادثة معينة أمر قد يصيب تلك القوانين بعيب خطير، وهو عيب الانحراف التشريعي، وذلك إذ  أنه وفي الأصل العام الذي تقوم عليه التشريعات الجنائية في كل الفلسفات والمدارس الجنائية والعقابية هو تأسيسها على أن الأصل في الإنسان البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو استثناء من القاعدة الأصلية، كما أن كافة التشريعات الجنائية الحديثة قد استقرت على مجموعة من القواعد الأصولية، وأقرتها كذلك الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وإن كانت التشريع الإسلامي قد سبقها في ذلك وتلك الأصول تدور حول عدم جواز معاقبة غير المتهم، وأن العقوبة شخصية ، وهو ما جاء في القران الكريم بقول المولى سبحانه ” ولا تزر وازرة وزر أخرى “، وهو ما يتأصل عنه ويندرج تحت أساسه أن العقوبة يجب أن تتوان مع حجم الجريمة وطأتها، وهو ما عبر عنه فقهاء القانون الجنائي بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب. كما أنه من الأوجب أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام. وكذلك ومن المفترض أن يكون القانون نابعا من المجتمع، كمخرج لتطلعاته، وليس قانونا فوقيا، لهذا يجب على التشريع أن يحقق في الحدود الدنيا نقاشا عموميا يقدمه المجتمع، ولا تكون صناعة القانون من داخل غرف مغلقة منفصلة عن المجتمع، وليست على دراية باحتياجاته وتطلعاته التشريعية، وهو ما يمكننا التعبير عنه بأن يتم طرح التشريعات أ التعديلات القانونية للمناقشات الاجتماعية، وعلى أقل تقدير حينما يتعرض القانون لتنظيم أحوال فئة بعينها، فيجب أن يتم طرح التشريع على هذه الفئة لأخذ الرأي فيما يتم من تعديلات او تنظيمات قانونية جديدة، ويجب ألا يتم العرض على فئة بعينها من فئات المجتمع المعني بالتشريع، وإنما وجب أخذ رأي المخاطبين بالقانون على اختلاف مشاربهم و تطلعاتهم، حتى يصدر التشريع في أكثر صورة تناسبا مع الاحتياجات المجتمعية الحقيقية.

ومن بعد هذا العرض الذي أعتقد أنه يقل عن الغرض المفروض له، وذلك يعود لعمق المشكلة، والتي يجب أن تتوجه إليها أسهم المتخصصين بالدراسة والفحص، إذ أن القانون ومنظوماته أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوي الاجتماعية علي اختلافها في المجتمعات المعاصرة‏,‏ ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع وإقرار المصالح للقوي الغالبة بلا نزاع‏.‏ وأن الوصول إلي توازن ما في المصالح هو تعبير أكثر تعقيدا عن أن الدولة وسلطاتها وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلي مستوي يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوي الاجتماعية والسياسية المسيطرة ـ وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي ـ إلي مصالح أكثر اتساعا تتصل بقوي اجتماعيا أوسع نطاقا‏,‏ أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة‏.‏ وهذا المعنى ما مؤداه أنه يجب أن تتم الصناعات القانونية بطرق أكثر تقربا من المجتمعات المخاطبة بها، لا أن يتم تنحيتها جانبا، على الرغم من كونها هي الفئة المخاطبة أو المعنية من صناعة هذا القانون، وهذا ما تتجلى صورته الكبرى في كثرة التعديلات التي تنال التشريعات، وهو الأمر الذي يصيب صناعة القانون نفسها بتخمة تجعل من القوانين غابة لا تستطيع متابعة تطوراتها، حتى من معظم العاملين في مجال القانون نفسه، وهذا الأمر لا ينتج سوى من طريقة صناعة التشريع، وهي تلك الطريقة التي يُطلق عليها الفقهاء والباحثين بالطرق الفوقية لصناعة القانون، وهي ما تعني أن تتم صياغة القوانين من قبل المجالس المختصة بها دونما أي ارتباط بين القوانين والاحتياجات المجتمعية، أو دونما عرض أمر القانون على الفئات المجتمعية المخاطبة به، وهذا ما يجعل المنتج القانوني في صورته النهائية ليس مرضيا عنه بصورة مجتمعية ولو توافقية، قد توحي بطول عمر هذا التشريع، وعدم الحاجة إلى التطرق إلى تعديله عقب تغير النظام الحاكم أو تغير مجموعة المشرعين نفسهم، هذا بخلاف المشاكل التي تنتج عند تطبيق القانون نفسه، فكلما كان القانون أكثر توافقا مع الاحتياجات أو الطموح المجتمعي، كلما زاد عمره وصلاحيته داخل المجتمع، ولكن كلما كانت الصناعة بعيدة عن رغبات المجتمع، كلما كان هناك المزيد من المشكلات العملية وقت أن يدخل القانون حيز النفاذ، إلى أن ينتهي الأمر بأن تناله يد التعديل التشريعي مرة جديدة سواء كان ذلك تحت ضغوط مجتمعية، أو بناء على عرض القانون على الرقابة الدستورية، ولما كان النظام القضائي المصري يعمل بنظام الرقابة الدستورية اللاحقة على نفاذ القانون، وهو ما يعني أن يتم تطبيق القانون مرات عديدة حتى يتم عرضه على المحكمة الدستورية العليا، لتقول كلمتها النهائية بخصوص مدى صواب وصلاحية القانون، وهذا ما يعني أن يتحمل المجتمع ثمن أو قيمة تطبيق القانون في حالة الحكم الدستوري بعدم دستوريته، وهذه التكلفة المجتمعية، ليست من قبيل الترف الاجتماعي، وإنما هي تشكل بطريقة تراكمية مدى احترام المجتمع للقانون، ومدى تفاعله معه، أو بالمعنى المقابل مدى الارتباط بين القانون وبين الاحتياجات أو التطلعات المجتمعية.

 

1 – المحكمة الدستورية العليا – الحكم رقم 22 لسنة 25 قضائية – جلسة 14 / 3 / 2015 .

2 – يتولى مجلس النواب سلطة التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على النحو المبين في الدستور

3 – المادة 249 من الدستور المصري، مضافة سنة 2019 تنص على ان يؤخذ رأي مجلس الشيوخ في مشروعات القوانين ومشروعات القوانين المكملة للدستور التي تحال إليه من رئيس الجمهورية أو من مجلس النواب.

4 – تنص المادة 156 بقوله ” إذا حدث في غير دور انعقاد مجلس النواب ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير” ثم تلى ذلك في الفقرة الثانية منها  “وإذا كان مجلس النواب غير قائم،  يجوز لرئيس الجمهورية إصدار قرارات بقوانين على أن يتم عرضها ومناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يوما من انعقاد المجلس الجديد”. وبالتالي فقد ميزت المادة بوضوح لا يحتمل التأويل بين الحكم الواجب الاتباع في حالة وجود مجلس النواب في غير دور الانعقاد، وهو ما يستوجب تطبيق الفقرة الأولى بقولها ” يدعو رئيس الجمهورية المجلس لانعقاد طارئ لعرض الأمر عليه”، وهو ما يختلف عن الحكم الواجب الاتباع في حالة عدم قيام المجلس من اﻷصل، حيث أوجب النص الدستوري عرض ما صدر من تشريعات على المجلس خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انعقاده. وهو ما يكشف بوضوح عن نية واضع النص التمييز بين الحالتين واعتبارهما حالتين مختلفتين كيفيًا وإلا لنص عليهما معًا في نفس الفقرة ودون تمييز في الضمانات.

 

-5 – راجع في ذلك دراسة للضرورة أحكام – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – طارق عبد العال – ط 2015 – ص 6 وما بعدها.

6 – نص الدستور الإسباني الصادر سنة 1978 والمعدل سنة 2011 في المادة 86 / 1 على أنه: – يحق للحكومة أن تصدر في حالة الضرورة القصوى والملحة أحكاماً تشريعية مؤقتة تكون بمثابة مراسيم قوانين ، ولا يمكن لها أن تطال نظام مؤسسات الدولة الأساسية وحقوق المواطنين المنصوص عليها في الباب الأول ، وواجباتهم والحريات التي يتمتعون بها كما لا يمكنها أن تشمل نظام مجتمعات الحكم الذاتي وقانون الانتخاب العام.

 

7 –  د/ سامي جمال الدين – لوائح الضرورة وضمانة الرقابة عليها- ط 1982 – منشأة المعارف – الأسكندرية – ص 27 .

 

8 – د / عمر حلمي فهمي – الوظيفة التشريعية لرئيس الدولة في النظامين الرئاسي والبرلماني – رسالة دكتوراه – جامعة عين شمس – ص4

9 – المحكمة الدستورية العليا – الحكم رقم 18 لسنة 8 ق د – جلسة السبت 3/2/1996 –ج ر العدد 7 مكرر في 17/2/1996

 

[10]  – حكم المحكمة الدستورية العليا جلسة 12 فبراير 1994 القضية 105 لسنة 12 قضائية دستورية

154مجموعة أحكام المحكمة الدستورية الجزء 6 ص

11 – المحكمة الدستورية العليا – الحكم رقم 114 لسنة 21 ق د

[12]  -حكم المحكمة الدستورية العليا جلسة 12 فبراير 1994 القضية 105 لسنة 12 قضائية دستورية- مجموعة أحكام المحكمة الدستورية الجزء 6 ص154

[13]  – أحمد فتحي سرور – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – ط دار الشرق – القاهرة – ص 87

[14]  – المحكمة الدستورية العليا – ق رقم 5 لسنة 8 ق د – جلسة 6 / 1 / 1996

[15]  – المحكمة الدستورية العليا في 3 فبراير سنة 1996 ، مجموعة أحكام الدستورية العليا – ج 7 قاعدة رقم 22 ص 393

[16]  – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – د / أحمد فتحي سرور – ص 273