التطورالاجتماعي للتشريعات العقابية وقانون التحرش

طارق عبد العال
وسوم : -

بقلم أ/  طارق عبد العال المحامي 

في واحد من أهم أحكام المحكمة الدستورية العليا، وهو الحكم رقم  114 لسنة  21 قضائية قالت فيه المحكمة أن ” وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديراً بأن الأصل في النصوص التشريعية – في الدولة القانونية – هو ارتباطها عقلاً بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف. ثم أردفت بقولها أن فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو كان متصلاً بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافاً “.

وفي الأصل العام الذي تقوم عليه التشريعات الجنائية في كل الفلسفات والمدارس الجنائية والعقابية هو تأسيسها على أن الأصل في الإنسان البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو استثناء من القاعدة الأصلية، كما أن كافة التشريعات الجنائية الحديثة قد استقرت على مجموعة من القواعد الأصولية، وأقرتها كذلك الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وإن كانت التشريع الإسلامي قد سبقها في ذلك وتلك الأصول تدور حول عدم جواز معاقبة غير المتهم، وأن العقوبة شخصية ، وهو ما جاء في القران الكريم بقول المولى سبحانه ” ولا تزر وازرة وزر أخرى “، وهو ما يتأصل عنه ويندرج تحت أساسه أن العقوبة يجب أن تتوان مع حجم الجريمة وطأتها، وهو ما عبر عنه فقهاء القانون الجنائي بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب.

هذا وقد نشرت الجريدة الرسمية في عددها رقم 32 مكرر ( أ )  بتاريخ 15 أغسطس القانون رقم القانون رقم 141 لسنة 2021، والمتضمن تعديل قانون العقوبات، وذلك بخصوص جريمة التحرش الجنسي.

وبحسب ما نشرته الجريدة الرسمية، جاءت التعديلات على استبدال نص المادتين «306 مكرر أ» و«306 مكرر ب» من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937، بالنصين التاليين :

مادة «306 مكرر أ»: «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز  أربع سنوات، وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية، أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأي وسيلة بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية، أو أي وسيلة تقنية أخرى.”

وتطرق القانون في التعديل الثاني للمادة «306 مكرر ب»، إلى احتمال أن يكون الجاني من أصحاب السلطة أو مارس الضغط على المجني عليها بسبب سلطة وظيفية أو أسرية، وجاءت كالتالي: «يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة (306 مكرر أ) من هذا القانون، بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات. وإن كان الجاني ممن نص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) من هذا القانون، أو كانت له سلطة وظيفية أو أسرية أو دراسية على المجني عليه، أو مارس عليه أي ضغط تسمح له الظروف بممارسته عليه، أو ارتُكبت الجريمة من شخصين فأكثر أو كان أحدهم على الأقل يحمل سلاحًا؛ تكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن سبع سنوات”.

ولابد وأن نقرر في البدء أننا من أنصار معاقبة المجرمين الذين يقومن بأي أفعال من شأنها التعدي على حريات النساء، أو التعرض للأنثى بأي شكل يشكل جريمة تمس حياءها وعفتها، لكن لابد وأن يكون هناك أبعاد أخرى حين التطرق إلى كيفية معاقبة المجرمين، إذ أن ما نلاحظه بخصوص التشريعات الجنائية المصرية خلال السنوات الأخيرة أنها في مقامها الرئيسي تسعى فقط إلى التشدد في العقاب بشكل يكاد يكون مفرط، وبالتالي يكاد يكون متجافيا مع مبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب، ومن ناحية السياسات الجنائية والعقابية الحديثة فإن التشدد العقابي لا يفيد في إصلاح المتهمين في معظم الحالات، كما أن السياسات العقابية الحديثة تتوجه نحو الإصلاح الاجتماعي الذي يتنافى مع التوسع او التشدد في عقوبة السجن أو الحبس، بل تتجه الدراسات الاجتماعية الجنائية الحديثة إلى البحث عن سبل عقابية أفضل تتناسب والتطورات المجتمعية، وفي مثل هذه الجرائم أرى أن التوجه إلى البدائل العقابية الحديثة تكون ذات جدوى مجتمعية أفضل سواء لتقويم المتهم من الناحية السلوكية أو لإفادة المجتمع من المتهم بإلزامه بأن يؤدي واحد من الأعمال ذات النفع العام في محيط بيئته، أو الأعمال التي لها علاقة بتعديل أو تغيير السلوك والنمط الفكري والأخلاقي للمتهمين في مثل هذه النوعية من الجرائم ذات الصبغة الأخلاقية.

ويحضرني في هذا السياق، بحسب ما نشره موقع جريدة الدستور بتاريخ 22 يونيه لسنة 2021 منذ عشرة أيام، وذلك بخصوص جريمة سرقة خبز من أحد المتاجر في أمريكا، والتي قام بها أحد الأطفال، حيث قام القاضي بتجميع مبلغ عشرة دولارات من الحاضرين بالجلسة وقام بتغريم صاحب المتجر مائة دولار، وقال مقولة محترمة ” نحن جميعا مسؤولون عن هذه الجريمة، وأضاف أنه إذا قام القبض على شخص ما يسرق الخبز فيجب أن يخجل جميع السكان والمجتمع في هذه الدولة، وعلى الرغم من كون القاضي كان يملك أن يحاكم الطفل وفق المدونة العقابية الخاصة بالأطفال كمتهم في جريمة سرقة، إلا أن الحس القضائي السليم دفعه إلى محاكمة المجتمع كله في كلماته الرفيعة، ويحمله ذلك الخرق السلوكي من الطفل، ولا يعتمد على منهج جناح الأطفال التقليدي ويتجه لعقابه أو محاسبته، بل بحث عن دافعه لارتكاب هذه الجريمة، وتوجه بكلماته نحو معالجة السبب وليس الظاهرة.

وعلى الرغم من علمي وتيقني من اختلاف النسق القضائي بيننا وبين النظام القضائي الأمريكي، إلا أنه من الأوجب أن تتوجه الدراسات الاجتماعية والجنائية والعقابية إلى تعديل النسق العقابية، فليست السجون قادرة على تعديل السلوك البشري بشكل كبير، وإن معظم وحقيقة دورها يقف عند حدود الردع، وبشكل خاص منها السجون المصرية لما بها من فقر مؤسسي في نواحي متعددة لازمة جميعها في إصلاح أحوال المتهمين، وسلوكياتهم وأنماط تفكيرهم، خصوصا في الجرائم المرتبطة بها، وهي تلك التي تحتاج إلى معالجات خاصة، وأظن أن الجرائم الجنسية بشكل عام تقع في دائرة هذا النسق من التجريم أو العقاب.

ومن هنا فإنني أرى أن التشدد في العقوبات والذي بات ظاهراً في توجهات المشرع المصري منذ فترة ليست بالقصيرة في حاجة ملحة لإعادة النظر فيه، والعودة إلى الدراسات ذات الصلة، وبشكل أخص منها تلك الدراسات التي يصدرها المركز القومي للدراسات الاجتماعية والجنائية، إذ أن من الضروري البحث عن الدوافع التي تؤدي إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة سواء كانت اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية، وبالتالي البحث عن أسباب لعلاجها أو تقويم سوك المنحرف أو المتهم أو الجاني، ولا يمكن أن يكون أهم وسيلة علاجية هي التشدد في العقاب، إذ أن ذلك لا يعبر سوى عن نظرة انتقامية أو ردعية للمتهم فقط دون النظر إلى البعد الإصلاحي، ولا يجب أن يكون العقاب بهذا الشكل من التشدد فيه إلا بعد استنفاذ محاولات الإصلاح السلوكي أو التقييمي.