سلسلة أوراق قانونية – اعداد الاستاذ / طارق عبد العال المحامي
الارهاب في الاساس هو انكار لحقوق الانسان و تدمير لها،والحرب ضد الارهاب لن تنجح ابدا بأدامة نفس هذا الاتكار و التدمير. يجب ان نحارب الارهاب بلا هواده لحماية حقوق الانسان و في نفس الوقت عندما نحمي حقوق الانسان فأننا نعالج الاسباب الجذرية للارهاب ……. انطونيوا غوتيريش ” الامين العام للامم المتحدة “
أثر قانون الإرهاب على حرية الرأي
تعتبر حرية التعبير هي أصل جميع الحريات التي تتصل بإبداء الآراء والأخبار والمعلومات وتلقيها والتعبير عنها بکافة الوسائل ولهذا تندرج ، تحت حرية التعبير مجموعة من الحريات والحقوق الأخرى ذات الصلة کحرية الصحافة ، وحرية الإعلام ، وحرية تداول المعلومات ، والحرية الأكاديمية ، وحرية الإبداع ، والحق في الإضراب، والحق في التجمع والحق في التنظيم ، ويتوقف ممارسة هذه الحريات على كفالة حرية التعبير ابتداء ، نظراً لأنها الحرية الأصل ، التي إن انتقصت امتد هذا الانتقاص إلى سائر المنظومة ، وحمايتها بموجب الدستور تعني حماية لهذه الحريات، وتتوقف ممارسة هذه الحقوق، بدون خوف أو تدخل غير قانوني، أمر أساسي للعيش في مجتمع منفتح ومنصف، مجتمع يمكن فيه للناس الحصول على العدالة والتمتع بحقوقهم الإنسانية.
لقد صدر القانون رقم 95 لسنة 2015 المعنون بقانون “مكافحة الإرهاب”، بتعديلاته به العديد من التعبيرات الفضفاضة ، والألفاظ التي يصعب الوقوف على معنى محدد لها علاوة على ما ورد بقانون العقوبات المصري. وبحسب هذا التعريف، يشمل “العمل الإرهابي” أي “استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع” الذي يهدف، من بين ما يهدف إليه، إلى: – الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو أمنه أو مصالحة للخطر، أو تعريض حريات المواطنين أو حقوقهم للخطر أو الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي أو الأمن القومي أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالمباني أو بالأملاك أو منع أو عرقلة الجهات القضائية أو مصالح الحكومة عن عملها أو بعض أوجه نشاطها.
التعريف الموسع للارهاب في التشريع المصري
من ناحية أولية فإن قانون الإرهاب المصري بهذه الصيغ والألفاظ الواسعة يتناقض بشكل كبير مع تعريف الإرهاب الذي اعتمده مجلس الأمن بالإجماع في 2004 والذي قد أقرّه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان في وقت لاحق. وينص ذلك التعريف على أن الإرهاب هو:-” عمل يُرتكب بقصد القتل وإحداث إصابات بدنية خطيرة، أو أخذ رهائن بهدف تخويف أو ترويع السكان أو إرغام حكومة أو منظمة دولية على شيء ما”. كما انه يتعارض مع مبدأ أساسي أقره القانون الدولي لحقوق الإنسان و الذي ينص على أن تُصاغ القوانين بشكل دقيق وتُفهم على أنها ضمانة ضدّ الاستخدام التعسفي، وتُعرّف الناس على الأعمال التي تعتبر جرائم.
وعلى الرغم من أن القانون الدولي يسمح للحكومات بحظر التعبير الذي يُشجع بشكل مباشر على ارتكاب جريمة ما، أو الذي يرمي إلى وقوع عمل إجرامي، حتى إن لم تحصل الجريمة فعلا، فقد اقترح مقرر الأمم المتحدة الخاص بمكافحة الإرهاب أن تتبنى الدول تعريفًا محددا للتحريض يتم بموجبه تجريم نشر رسالة للجمهور فيها تحريض على ارتكاب عمل إرهابي، وتتسبب في “خطر” وقوعه. يُذكر أن بلدانًا مثل تونس والأردن ولبنان تُجرّم جميعها التحريض على الإرهاب الذي يتم في إطار عام أو يتسبب في عمل إرهابي.
و بشكل مجمل فقد ألزم القانون الدولي الحكومات التي تتعلل بتوافر حالة الضرورة بالعديد من القيود لضمان مراعاة حقوق الإنسان أثناء اتخاذ التدابير التي تراها لمواجهة حالة الضرورة تلك، وينظر القانون الدولي إلى الإرهاب على أنه يماثل حالة الضرورة أو حالة استثنائية تمثل خطرا داهما يهدد حياة الدولة وشعبها ومقدراتها.
وقد استقر القانون الدولي على أن هناك عدداً من الحقوق والحريات التي لا يجوز وقفها أو الانتقاص منها حتى في الحالات الاستثنائية مثل مواجهة الإرهاب، وذلك نزولاً من المجتمع الدولي والضمير الإنساني على أهمية حماية تلك الحقوق والحريات لتزايد تعرضها للانتهاك وأن التزام الدولة بحمايتها لا يتطلب منها سوى الامتناع عن المساس بها، من ضمنها حرية الفكر والاعتقاد.
تعريف الارهاب في القانون المصري
صدر قانون مكافحة الإرهاب المصري بموجب القرار بقانون رقم 94 لسنة 2015 ، وقد تم تعديله أو استحداث قواعد جديدة عليه، وذلك بعد أن تمت موافقة البرلمان المصري عليه كان أخرها القانون رقم 15 لسنة 2020 والصادرة بتاريخ 3 مارس 2020 ، وقد جاء نص المادة الثانية على أنه :-
يقصد بالعمل الإرهابي كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع في الداخل أو الخارج، بغرض الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر، أو إيذاء الأفراد أو إلقاء الرعب بينهم، أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم العامة أو الخاصة أو أمنهم للخطر، أو غيرها من الحريات والحقوق التي كفلها الدستور والقانون، أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الأمن القومي، أو إلحاق الضرر بالبيئة، أو بالموارد الطبيعية أو بالآثار أو بالأموال أو الأصول الأخرى أو بالمباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو منع أو عرقلة السلطات العامة أو الجهات أو الهيئات القضائية أو مصالح الحكومة أو الوحدات المحلية أو دور العبادة أو المستشفيات أو مؤسسات ومعاهد العلم، أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية، أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية في مصر، من القيام بعملها أو ممارستها لكل أو بعض أوجه نشاطها، أو مقاومتها، أو تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح. وكذلك كل سلوك يرتكب بقصد تحقيق أحد الأغراض المبينة بالفقرة الأولى من هذه المادة، أو الإعداد لها أو التحريض عليها، إذا كان من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو بالنظم المالية أو البنكية، أو بالاقتصاد الوطني أو بمخزون الطاقة أو بالمخزون الأمني من السلع والمواد الغذائية والمياه، أو بسلامتها أو بالخدمات الطبية في الكوارث والأزمات.
وبعيداً عن الاتساع الغير مبرر الوارد في كل ألفاظ هذا القانون، إلا أن ما يعنينا في هذا المقام ، هو الاتساع الذي ينال من حرية الرأي والتعبير والمذكور بالفقرة الأخيرة من المادة الثانية سالفة البيان بقولها ” وكذلك كل سلوك يرتكب بقصد تحقيق أحد الأغراض المبينة بالفقرة الأولى من هذه المادة، أو الإعداد لها أو التحريض عليها، إذا كان من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو بالنظم المالية أو البنكية، أو بالاقتصاد الوطني أو بمخزون الطاقة أو بالمخزون الأمني من السلع والمواد الغذائية والمياه، أو بسلامتها أو بالخدمات الطبية في الكوارث والأزمات “.
إذ أن عدم انضباط المعاني التجريمية الواردة بهذه الفقرة تؤثر بالسلب على مجالات حرية الفكر والرأي وتنال منها، لكونها تشملها بمقولة ” كل سلوك يرتكب – الإضرار بالاتصالات والنظم المعلوماتية – التحريض – الإعداد “.
ثم أضافت المادة الثالثة ما يوضح قصد القانون من تقييد حرية الرأي والتعبير بقولها :-
” يقصد بتمويل الإرهاب كل جمع أو تلق أو حيازة أو إمداد أو نقل أو توفير أموال أو أصول أخرى أو أسلحة أو ذخائر أو مفرقعات أو مهمات أو آلات أو بيانات أو معلومات أو مواد أو غيرها لأي نشاط إرهابي فردي أو جماعي منظم أو غير منظم في الداخل أو الخارج, بشكل مباشر أو غير مباشر, أيا كان مصدره وبأي وسيلة كانت بما فيها الشكل الرقمي أو الإلكتروني, وذلك بقصد استخدامها كلها أو بعضها في ارتكاب جريمة إرهابية أو العلم باستخدامها, سواء وقع الفعل الإرهابي أم لم يقع, أو بتوفير مكان للتدريب أو ملاذ آمن لإرهابي أو أكثر أو تزويده بأسلحة أو مستندات أو غيرها, أو بأي وسيلة مساعدة أخرى من وسائل الدعم أو التمويل أو السفر مع العلم بذلك ولو لم يكن لها صلة مباشرة بالعمل الإرهابي “.
ويكفينا هنا قول القانون ” أو العلم باستخدامها سواء وقع الفعل الإرهابي أو لم يقع “.وكذلك ما جاء في المادة 15 من ذات القانون من قولها ” أو وسائل الاتصال السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية، أو أية وسيلة تقنية أخرى “.
وما يٌعد أكثر ارتباطاً بحرية الرأي والتعبير من هذا القانون، ما جاء بنص المادتين :-
المادة 28
يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنين كل من روج أو أعد للترويج، بطريق مباشر أو غير مباشر، لارتكاب أية جريمة إرهابية سواء بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى. ويُعد من قبيل الترويج غير المباشر، الترويج للأفكار والمعتقدات الداعية لاستخدام العنف. وذلك بأي من الوسائل المنصوص عليها في الفقرة السابقة من هذه المادة. وتكون العقوبة السجن مدة لا تقل عن سبع سنين، إذا كان الترويج داخل دور العبادة، أو بين أفراد القوات المسلحة، أو قوات الشرطة، أو في الأماكن الخاصة بهذه القوات. ويُعاقب بذات العقوبة المقررة في الفقرة الأولى من هذه المادة كل من حاز أو أحرز أية وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية استعملت أو أعدت للاستعمال، ولو بصفة وقتية، بقصد طبع أو تسجيل أو إذاعة شيء مما ذكر.
المادة 29
يُعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنين، كل من أنشأ أو استخدم موقعاً على شبكات الاتصالات أو شبكة المعلومات الدولية أو غيرها، بغرض الترويج للأفكار أو المعتقدات الداعية إلى ارتكاب أعمال إرهابية، أو لبث ما يهدف إلى تضليل السلطات الأمنية، أو التأثير على سير العدالة في شأن أية جريمة إرهابية، أو لتبادل الرسائل وإصدار التكليفات بين الجماعات الإرهابية أو المنتمين إليها، أو المعلومات المتعلقة بأعمال أو تحركات الإرهابيين أو الجماعات الإرهابية في الداخل والخارج. ويُعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن عشر سنين، كل من دخل بغير حق أو بطريقة غير مشروعة موقعاً إلكترونياً تابعاً لأية جهة حكومية، بقصد الحصول على البيانات أو المعلومات الموجودة عليها أو الاطلاع عليها أو تغييرها أو محوها أو إتلافها أو تزوير محتواها الموجود بها، وذلك كله بغرض ارتكاب جريمة من الجرائم المشار إليها بالفقرة الأولى من هذه المادة أو الإعداد لها.
ضرورة انضباط النص الجزائي
من المعروف أن أية نصوص قانونية بما في ذلك النصوص الجنائية تُصبُ في قالب لغوي يحمل المعنى المراد وضعه في شكل قانون، أو أن أي صياغة قانونية فهي لا تخرج في أساسها البنائي عن كونها استخدام للغة في بناء القاعدة القانونية، ولكن هل من الممكن استخدام أية طريقة أو أي شكل لغوي وقت صياغة التشريع، أم أن للتشريعات وضعية ملائمة لخصوصيتها، فيجب استخدام أنماط معينة من اللغة، وطريقة محددة في التعبير عن القوالب القانونية. لابد منها حين استخدام اللغة للتعبير عن التشريع، بحسب أنها تشكل المُخرج النهائي الذي تخاطب به السلطة التشريعية المواطنين، أن يتم ذلك في أطر محددة، حتى تصبح المعاني القانونية المراد إيصالها للأفراد قاطعة الدلالة، سهلة الفهم، لا تحتمل التأويل لأكثر من معنى، ومن أهم الخصائص المتطلبة في اللغة التشريعية :-
- أن يكون القانون بسيطا في لغته التعبيرية بما يكفي لأن يدركه ويفهمه الشخص العادي.
- أن يكون حجم القانون معقولا حتى يمكن للشخص العادي أن يتعلمه.
- البعد عن استخدام التراكيب اللغوية المعقدة ، والجمل الطويلة بشكل مبالغ فيه، وهذا ما يعني استخدام أبسط الأساليب اللغوية في التعبير ، والبعد عن الألفاظ الملتبسة المعنى، أو التي تحتاج إلى تفسير لغوي.
- أن يتضمن ما يفي بمعرفة متطلبات القانون سواء كانت حقوق أو التزامات، وإبراز هدف المشرع وغايته من التشريع، وبما يشمل تضييق معدلات نقاط الخلاف حول مقتضيات النص تفسيراً أو تضييقاً.[1]
ومن الناحية الموضوعية فإن فلسفة مبدأ قانونية الجريمة والعقاب تقوم و تتمحور حول فكرة أساسية مفادها الموازنة بين المصلحة العامة والحريات العامة، وتهدف في آن واحد إلى حماية المصلحة العامة وحماية الحريات الفردية.
و تتجسد حماية المصلحة العامة في إسناد وظيفة التشريع إلى المشرع وحده تطبيقاً لمبدأ انفراد المشرع بالاختصاص التشريعي في تنظيم الحقوق والحريات العامة لتكون بيد ممثلي الشعب لا بيد رجال السلطة التنفيذية.
بينما تتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الأفراد بما هو غير مشروع من الأفعال قبل الإقدام عليها بما يضمن لهم الطمأنينة والأمن الشخصي ويحول بذلك دون تحكم القاضي في حرياتهم الشخصية.
ولكن تثور المشكلة في مدى احترام السلطات لهذا المبدأ ، ومدى توافقها في إصدار تشريعاتها مع ضرورة الحفاظ على حقوق الأفراد وحرياتهم ، وضرورة التجريم صونا لحقوق الأفراد والمجتمعات من زاوية ثانية، كما تبدو المشكلة أكثر صعوبة في كيفية صياغة التشريعات العقابية، واحترامها للمبادئ والقيم الدستورية والتي يبدو أهمها في هذا المقام هو ” التناسب ما بين الجرم والعقاب”، وان تتفق أو تتساند النصوص العقابية مع الدستور والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق وحريات المواطنين.
و تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح، فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة.
ضوابط التجريم
وانطلاقاً من الأصل العام ” البراءة ” فإن تجريم بعض الأفعال الضارة بالأشخاص أو المجتمعات أو الممتلكات، وما إلى ذلك يعد استثناءً على ذلك الأصل العام، ومن ثم وجب أن تكون هناك ضوابط محددة لكيفية التجريم، وذلك لتصادم فكرة التجريم أحياناً مع بعض الحقوق والحريات الفردية، ويكون ذلك واضحاً في بعض الجرائم المعنية بحماية كيان الدولة، أو المنظمة لبعض المنشئات ذات الطابع الخاص كالمؤسسة العسكرية. ومن زاوية ثانية فإن فكرة التجريم هي فكرة نسبية فما كان محلاً للتجريم اليوم في مجتمع قد لا يكون كذلك غداً في مجتمع آخر. وفكرة الضرر الاجتماعي بحسبانها معيار التجريم هي فكرة نسبية كذلك ، إذ تتوقف على نظرة كل مجتمع وما يسوده من قيم وثقافات. و وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح. فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة، ولكن ذلك لا يعني إطلاق يد الدولة ممثلة في سلطتها التشريعية في تجريم ما يعن لها من أفعال دونما أية ضابط لذلك، وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن ذلك المعنى بقولها :- “ أن الأصل في النصوص العقابية هو أن تصاغ في حدود ضيقة لضمان أن يكون تطبيقها محكما فقد صار من المحتم أن يكون تمييعها محظورا ، ذلك أن عموم عباراتها و اتساع قوالبها قد يصرفها إلى غير المقصود منها ، فيتعين أن يكون النص العقابي حادا قاطعا لا يؤذن بتداخل معانيه كي لا تنداح دائرة التجريم ، وتظل دوما في إطار الدائرة التي يكفل الدستور في نطاقها قواعد الحرية المنظمة”[2].
الضوابط و القيود التي يجب ان يلتزم بها المشرع الجنائي .
لا شك في كون تجريم العديد من الأفعال قد ينطوي على مساس بدرجة أو بأخرى على بعض الحقوق والحريات، سواء كانت تلك الحريات من قبيل الحريات العامة، أو من الحريات أو الحقوق الشخصية. ولكن هل هناك إطلاق ليد المشرع حال تجريمه لهذه الأفعال؟ أم أن هناك شروط أو قيود يجب أن يلتزم بها الشارع حين قدومه على تجريم أمر مما يتعلق بالحقوق والحريات.
ومن زاوية ثانية فإن الحقوق والحريات وإن كانت مكفولة بنصوص الدستور أو بمقتضى اتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان، فإنها ليست بالمطلقة، بل أن لها ضوابط أو قيود تمنع من الشطط بها إلى حد الطغيان على حقوق وحريات الآخرين ، كما وأن الحرية ترتبط بالمساواة ارتباطاً وثيقاً بما مؤداه أن الحرية ينبغي أن تستند من حيث أساسها على مبدأ المساواة والاهتمام بالمصلحة العامة.[3]
ومن هنا يبدو دور مبدأ التناسب ، حيث يمثل معياراً لتحقيق التوازن وضماناً لوحدة النظام القانوني في حمايته للحقوق والحريات، ويقتضي وجود علاقة منطقية بين مختلف القواعد القانونية وبين مختلف العناصر التي تتكون منها القاعدة القانونية، وتحديد المعاملة الواجبة حسب ما تقرره القاعدة من وسائل لاستعمال الحقوق والحريات ، وفي تحقيق الهدف منها ، كما هو الحال في جريمة الاعتداء على النفس أو المال ، فإن الحق في الدفاع الشرعي المقرر لمواجه هذا الاعتداء قائم على أساس التناسب بين الاعتداء الحاصل والدفاع القائم عن هذه الحقوق [4].
وإجمالاً فقد استقر الفقه على أن هناك حدود وجب عدم تجاوزها حين التشريع في أمر من أمور الحقوق والحريات، وكما ذكر أستاذنا د / أحمد فتحي سرور في مقدمة مؤلفة القانون الجنائي الدستوري :-
أن الدولة القانونية بحكم وظيفتها عليها أن تحمى جميع المصالح القانونية ، وهى ليست قاصرة على الدولة وحدها، بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد وحرياته ، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون ، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع ، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين في إطار العلاقات الاجتماعية التي تحكم المجتمع . وقد عنى الدستور المصري ضمانا لحماية الحقوق والحريات بأن ينص في المادة 57 منه على أن ” الاعتداء على هذه الحقوق والحريات جريمة لا تسقط دعواها الجنائية ولا المدنية بالتقادم ، وأن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء “.
الخاتمة
يتضح مما سبق أن نصوص قانون الإرهاب، وخصوصا تلك النصوص المشار إليها قد جاوزت كل هذه الضوابط و الشروط التي يجب ان يلتزم بها المشرع الجنائي و حملت نصوص قانون مكافحة الارهاب العديد من معاني وألفاظ تتحمل أكثر من معنى، وبالتالي يمكن تطويعها حسب أسلوب استخدامها، وهذه المواد تحمل تقيداً وتضيقاً على حريات الرأي والتعبير بصورة واسعة النطاق ومبالغ فيها إلى حد كبير، وهو الأمر الذي يجعل من ممارسة حريات الرأي والتعبير بشموليتها تحت مظلة هذه التشريعات أمراً محفوفاً بالمخاطر، ولا يمكن تجاوزه إلا على حسب هوى ورغبة السلطة، فإن هي شأت أجازت، وإن شأت منعت، وهذا ما يصيب تلك الحرية في مقتل ويبعدها عن أن تكون ذات أثر فعال في المجتمع بحسبها الحرية الأم التي يسير تحتها وفي كنفها العديد من الحقوق والحريات الأخرى كحرية التجمع أو الحق في الاجتماع أو المشاركة في الحياة السياسية، وكذلك الحريات النقابية، وإجمالاً فإنه يمكننا القول بأن هذا القانون ليفرغ حقوق المواطنين من مضمونها الحقيقي الذي قصده المشرع الدستوري و أكدته نصوص القانون الدولي محل التزام الدولة المصرية سواء كان حقهم في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات الطوعية أو التعبير عن أراءهم ومعتقداتهم وعسف تماماً بالحريات الصحفية، ويمكننا ختم هذه الورقة بما صدر من الجمعية العمومية للأمم المتحدة أن الدول «ينبغي عليها أن تضمن أن أي إجراءات تتخذ لمكافحة الإرهاب تتوافق مع التزاماتها طبقا للقانون الدولي؛» وأن أي تقييد للحقوق القابلة للانتقاص كالحق في التجمع والحق في التعبير خاضع لمعايير صارمة؛ وأن الحقوق غير القابلة للانتقاص كالحق في الحياة والخلو من التعذيب والقسوة والمعاملة غير الإنسانية والمهينة، ينبغي أن تحترم في جميع الأحوال. عندما يتم تطبيقه باتساع يصير من المحتمل جدا أن يؤثر قانون مكافحة الإرهاب على عدد من الحقوق، بما فيها الحق في الحياة وحرية التعبير والتجمع والخصوصية والمحاكمة العادلة والخلو من التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية والمهينة، ما يطرح تساؤلات عن التزامات الدولة القانونية دستوريا وإقليميا ودوليا.
[1] – هيثم الفقي – الصياغة القانونية – بحث متاح على الشبكة الإلكترونية
[2] -حكم المحكمة الدستورية العليا جلسة 12 فبراير 1994 القضية 105 لسنة 12 قضائية دستورية- مجموعة أحكام المحكمة الدستورية الجزء 6 ص154
[3] – تميم طاهر الجادر وآخرين – الضرورة والتناسب في القاعدة الجنائية – بحث منشور على شبكة الإنترنت – ص 15
[4] – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – د / أحمد فتحي سرور – ص 273