تجريم القيم الأسرية

وسوم : -

مدى دستورية ” تجريم القيم الاسرية “

ورقة من اعداد

الاستاذ / طارق عبد العال المحامي و الخبير القانوني

سلسلة اوراق قانونية .

تأتي هذه الورقة في اطار سلسة اوراق قانونية، وهي احدى الاوارق التي تصدر عن الوحدة القانونية بمركز الحق للديمقراطية و حقوق الانسان و تستعرض الورق نص المادة 25 من قانون جرائم تقنية المعلومات بشأن الأعتداء على القيم الأسرية.

و تستعرض الورقة نص المادة 25 و التي جائت معبرة عن توجه المشرع المصري في السنوات الاخيرة و الذي بات تشريعاته تتسم دائما بالتوسع التجريمي و التشدد العقابي بشكل مخالف للمنطق القانوني السليم ، ليس هذا فحسب بل انه بات اكثر افراطا عما قبل في استخدام العبارات المتميعة و الفضفاضة التي يجوز تأويلها بأكثر من شكل.

و تتناول الورقة تعريف ما يقصد بالقيم بداية و تنتقل الورقة الي استعراض ماهية الضوابط الخاصة بالتشريعات الجنائية و مدى انطباق تلك الضوابط على النص القانوني محل الورقة من حيث الصياغة التشريعة و الضوابط الدستورية بشأن النصوص الجنائية و العقوبات التي تفرضها و مدى توافق التشريع مع الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان .

مقدمة

في الرابع عشر من  أغسطس 2018 نشرت الجريدة الرسمية القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات ليتم العمل به من تاريخ 15 أغسطس 2018.

وقد أفردت المادة 25 من هذا القانون نموذج متفرداً لتجريم أمور أو أشياء، تخالف وتعاكس المنطق القانوني السليم، وهذه الصفة قد زادت عن حدها في التشريعات المصرية في السنوات الأخيرة، فقد اتسمت التشريعات الجنائية بالتشدد العقابي والتوسع التجريمي الغير مبررين، ولما كانت هذه الورقة معنية بمتن المادة 25 من هذا القانون، فلسوف تنطلق من خلال نصها كما يلي

المادة (25) الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حرمه الحياة الخاصة والمحتوى المعلوماتي غير المشروع

يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياه الخاصة أو ارسل بكثافة العديد من الرسائل الاكترونية لشخص معين دون موافقته، أو منح بيانات إلى نظام أو موقع أليكتروني لترويج السلع أو الخدمات دون موافقته أو بالقيام بالنشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو بإحدى وسائل تقنية المعلومات، لمعلومات أو أخبار أو صور وما في حكمها، تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أم غير صحيحة

وإذ أن ما ورد في هذه المادة من عبارة ”  كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياه الخاصة “.

تعد نُموذجاً قياسياً  للتوسع في سلطة التجريم، وهو الأمر الذي يقتضي حتما تناول ذلك بشئ من التعريف :

تعريف القيم :-

” القيم عبارة عن تصورات من شأنها أن تفضي إلى سلوك تفضيلي، كما أنها تعتبر بمثابة معايير للاختيار من بين البدائل السلوكية المتاحة للفرد في موقف ما، ومن ثم فان احتضان الفرد لقيم ،معينة يعني توقع ممارسته لأنشطة سلوكية تتسق مع تلك القيم .” فالقيم محدد ومرشد للسلوك وهي التي توجه اختياراتنا من بين بدائل السلوك في المواقف المختلفة وتحدد لنا نوع السلوك المرغوب فيه في موقف ما توجد فيه عدة بدائل سلوكية كما يرى بأن التعدد في مجالات الحياة والسلوك يؤدي إلى تعدد في نظم القيم الموجهة لسلوك الفرد.”

كما قيل أن القيم هي أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية يتشربها الفرد ويحكم بها ، وتحدد مجالات تفكيره ،تحدد سلوكه وتؤثر في تعلمه كما يرى بأن القيم الاجتماعية تعني الصفات التي يفضلها أو يرغب فيها الناس في ثقافة معينة ، وتتخذ صفة العمومية بالنسبة لجميع الأفراد لما تصبح من موجهات السلوك أو تعتبر أهدافا له “[1]

وقد أفرد المُشرِّع فصلًا مُستقلًّا لتجريم أفعال مختلفة يُشكل كل منها اعتداءً على الحياة الخاصة، تحت مُسمى “الفصل الثالث: الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والمحتوى المعلوماتي غير المشروع” وتناولت المواد 25  من القانون بالتفصيل صور وأشكال الاعتداء على الحياة الخاصة، على كلِّ مَن:-

– اعتدى على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري؛

– أو انتهك حرمة الحياة الخاصة

ويتضح من النص المبحماية حرمة الحياة الخاصة أن المُشرِّع قد حدد أربع صور لأشكال الجريمة التي من الممكن أن تُمثِّل انتهاكًا للحق في الخصوصية، وهو ما يعني أن نص المادة 25 “جريمة الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية” لا يُمكن تفسيره بأي حال خارج سياق حماية الحق في الخصوصية، التي هي من المفترض أن تكون الهدف الرئيسي من إقرار ذلك القانون كما أشارت المذكرة الإيضاحية والتقرير البرلماني المُشترك، وللسياق الخاص الذي تم تناول الجريمة من خلاله، فالفصل الثالث من القانون رقم 175 لسنة 2018 ونص المادة 25 من القانون ذاته مُخصصين بالأساس لحماية الحياة الخاصة، وهو ما يعني أن المُشرع أراد التوسع في صور حماية هذا الحق خشية التطور التكنولوجي وظهور صور مختلفة للأفعال التي قد تكون غير قانونية والتي التي يصعب حصرها، لذلك جاء نص المادة محتويًا على صور عامة للاعتداء على حرمة الحياة الخاصة والتي استخدم المُشرع خلالها لفظ “الاعتداء على القيم والمبادئ الأسرية“.

لكن هل كان لهذا التوسع التجريمي ما يبرره من حيث الاتفاق أو الاختلاف مع المبادئ والقيم أو الأسس العلمية التي يجب أن تُبنى عليها التشريعات الجزائية بشكل عام.

 ولكن قبل أن نتطرق إلى المعايير الأساسية للتجريم لابد وأن نتطرق كمدخل لزومي إلى استعراض الية صياغة التشريعات و ضوابطها .

صياغة التشريع :-

    من المعروف أن أية نصوص قانونية بما في ذلك النصوص الجنائية تُصبُ في قالب لغوي يحمل المعنى المراد وضعه في شكل قانون، أو أن أي صياغة قانونية فهي لا تخرج في أساسها البنائي عن كونها استخدام للغة في بناء النص القانوني أو القاعدة القانونية، ولكن هل من الممكن استخدام أية طريقة أو أي شكل أو قالب لغوي وقت صياغة التشريع، أم أن للتشريعات وضعية ملائمة لخصوصيتها، فيجب استخدام أنماط معينة من اللغة، وطريقة محددة في التعبير عن القوالب القانونية. لابد منها حين استخدام اللغة للتعبير عن التشريع، بحسب أنها تُشكل المُخرج النهائي الذي تخاطب به السلطة التشريعية المواطنين، و أن يتم ذلك في أطر محددة، حتى تصبح المعاني القانونية المراد إيصالها للأفراد قاطعة الدلالة، سهلة المعنى بحيث لا تكون عصية على الفهم، لا تحتمل التأويل لأكثر من معنى، ومن أهم الخصائص المتطلبة في اللغة التشريعية، تكمن في بساطة اللغة التعبيرية للقانون، وأن تكون في جمل بسيطة، وهو ما يعني البعد عن الجمل اللغوية المعقدة  أو الطويلة، أو التي تحتمل التأويلات المتعددة أو المتناقضة.[2]

وكل هذه الاشتراطات المطلوبة في اللغة القانونية تعد غير متوافرة في النموذج محل التعليق والمتعلق بالمادة رقم 25 من القانون رقم 175 لسنة 2018 ، وتُعد من هذا القبيل نموذجاً على استخدام ألفاظ  يسهل تأويلها لأكثر من معنى، أو تحميلها لأكثر مما يجب أن تحتمل أو تُحمل به، أولتغيير المقاصد التشريعية، والمفترض أن تكون محددة وواضحة في قصد المشرع، فكيف يمكننا ضبط اصطلاح ” القيم الأسرية “، وهو أصلا مصطلح اجتماعي متغير ومختلف من وقت لآخر ومن زمن لغيره.

في الأصل العام تقوم كل الفلسفات القانونية العقابية على أساس افتراض البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو الاستثناء، كما استقرت جميع التشريعات العقابية على أصل مهم يتضافر مع تلك الأصول التشريعية، وهو مبدأ عدم جواز معاقبة غير المتهم، وأن لا يُعاقب المتهم بغير ما اقترفت يداه، وهو المبدأ الذي استقرت عليه معظم التشريعات الجنائية، وأقرته كذلك مجموعة من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، مثل ما جاء النص عليه في المادة الرابعة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بقولها أن “من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا “. وقد سبقت الشريعة الإسلامية الأنظمة الوضعية بعدة قرون في تأكيدها على مبدأ شخصية العقوبة، فقد جاء النص عليها في القرآن الكريم، والذي يمثل أصل التشريع الإسلامي في قول المولى سبحانه: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وهو ما أُطلق عليه اصطلاحا مبدأ «شخصية العقوبة» وهو ما عبرت عنه العديد من الأحكام بقولها: الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين بها كمسئول عنها، كما يجب أن تتوازن العقوبة في وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوع الحماية القانونية، مؤمما مؤداه أن شخصية العقوبة وشخصية المسئولية الجنائية متلازمتان.

وقضت المحكمة الدستورية العليا المصرية بأن :- “ إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في مفاهيم الدولة المتحضرة ، دعا على توكيده بينها ومن ثم وجد صداه في عديد من المواثيق الدولية ، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان . وتردد هذا المبدأ كذلك في دساتير عديدة يندرج تحتها ما تنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذي ينص عليها ، وما تقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التي تقضي بأن الأصل في أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية في مجموعهم “.[3]

التجريم ومبدأ المشروعية :-

من المبادئ المسلم بها دستورياً قاعدة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون) وتعرف هذه القاعدة في فقه القانون الجنائي بمبدأ الشرعية أو مبدأ قانونية الجريمة والعقاب.

ويشكل مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أحد مبادئ القانون الجزائي الضامنة للحريات العامة وحقوق الإنسان، ومفاد هذا المبدأ، إن أي فـعـل لا يمكن اعتباره جريمة تترتب عليه عقوبة إلا إذا نص القانون على اعتباره جريمة معاقباً عليها، وبخلاف ذلك فان كل فـعـل لـم تحدد أركانه بوضوح في نص وتوضع لـه عقوبة مقررة، لا يمكن أن يعاقب فاعله. لأن الأصل فـي الأشياء الإباحة، وكل فعل لـم يجرم صراحة بنص، لا يجوز المعاقبة عليه ولو خرج على القواعد الأخلاقية وقيم المجتمع. وهذه هـي دولة القانون، وتقوم فلسفة مبدأ قانونية الجريمة والعقاب تتمحور حول فكرة أساسية مفادها الموازنة بين المصلحة العامة والحريات العامة وتهدف في آن واحد إلى حماية المصلحة العامة وحماية الحريات الفردية.

قضت المحكمة الدستورية العليا المصرية بأن :- إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما : أن تُصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض فلا تكون هذه النصوص شبكا أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها ، وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها فلا يكون سلوكهم مجافيا لها ، بل اتساقاً معها ونزولاً عليها. ثانيتهما : ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون ، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها ، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه ، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها فلا يكون رجعياً”.[4]

ضوابط التشريعات الجنائية :-

تتوجه سياسة التجريم بشكل رئيس  إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي، فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية من خلال تشريعاتها لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع وبالتالي وجب عليها أن تختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن المصلحة المجتمعية.

ومن هنا تبدو قيمة مبدأ ” الشرعية الجنائية” ، ووفقاً لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب فإن المشرع وحده هو الذي يحتكر سلطتي التجريم والعقاب في المجتمع، بمعنى أخر أن مصدر قانون العقوبات هو التشريع حصراً، وإلى هذا التشريع يُرجع فقط لبيان ما إذا كان فعل ما أو امتناع عن فعل ما يخضع للتجريم أم لا، ومن ثم تحديد الجزاء المترتب على ذلك الفعل إذا تبين أنه يشكل بالفعل جريمة، ويعد هذا المبدأ انعكاساً لكون أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن التجريم يمثل استثناءً على الأصل العام، وهو ما مؤداه أن النصوص تحدد ما هو جريمة ولا تحدد ما هو مباح، وهو الأمر الذي ترتب عليه العديد من المبادئ أو القيم القانونية التي سارت عليها كافة المدونات في المجتمع الدولي ، والتي أهمها ” الأصل في المتهم البراءة “وأنه ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص “.

ولقد كان للمحكمة الدستورية وقفات عديدة في سبيل ضبط شرعية النص الجنائي على أحكام الدستور ، ولقد كان للمحكمة دور بارز في تقعييد الأحكام الضابطة لهذه النصوص بالنظر لخطورتها على الحرية الفردية ومساسها المباشر بحقوق الإنسان وكرامته . وسوف نبسط أهم هذه المبادئ على النحو الآتي:

وضوح القاعدة الجنائية وإنتفاء غموضها:-

لعل من أهم وأسبق الضوابط التي أوجبت المحكمة الدستورية العليا تحققها هي قاعدة وضوح النص الجنائي، وانتفاء غموضه ، فإذ كان النص الجنائي غامضًا أو متميعًا بحيث يصعب على المخاطبين بأحكامه الوقوف على دلالته ، فإنه يكون غير مستوف للضوابط الدستورية للقاعدة الجنائية . وقد كان هذا الاعتبار بصدد الجريمة المؤثمة بالمادة (5) من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم ، إذ كان مضمون النص الجنائي غير واضح، وغير محدد المعالم على نحو يتيح للمخاطبين به الكف عن موانعه، فقضت المحكمة بأن ” الأصل وفقا لنص المادة (66) من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة ينص القانون عليها في صلبه، أو تقرر – علي الأقل – وفقا للحدود التي يبينها، كذلك، فإن من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزئية، أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلي مستوياتها، وأظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخري، ذلك أن القوانين الجزئية تفرض علي الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثرا، ويتعين بالتالي – ضمانا لهذه الحرية – أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وبمراعاة أن تكون دوما جليلة واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها علي بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها، كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين أعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه، وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي قيدها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود علي الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلي الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة.ولقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطا من الناحية التاريخية بإساءة استخدام السلطة، وكان أمرا مقضيا أن يركن المشرع الي مناهج جديدة في الصياغة لا تنزلق إلي تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معني والتي تنداح معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع في محاذير واضحة قد تنتهي بها – في مجال تطبيقها للنصوص العقابية – إلي ابتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلي إنشائها، والي مجاوزة الحدود التي اعتبرها الدستور مجالا حيويا لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها، وهو ما يخل في النهاية بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقا لنص المادة (67) من الدستور، والتي عرفتها هذه المحكمة بأنها تعكس نظاماً متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها.”[5]

– ومن الصعب يقيناً في ضوء هذه التعبيرات التي وردت في النص محل التعليق من قوله ( اعتدى على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري – أو انتهك حرمة الحياة الخاصة )وهي التعبيرات أو الجمل أو الصياغات القانونية غير المنضبطة أوغير المحكومة بقواعد تصلح كنموذج تجريم ينضبط معها الركن المادي لاعتبار وجود جريمة، ومن ثم يصعب تحديد معيار قاطع لوقوع فعل مجرم من عدمه، وبالتالي فإن ذلك الأمر قد يؤدي إلى استخدام السلطة للمعاقبة على النوايا التي لم تخرج إلى حيز الفعل المادي الملموس، أو من الممكن تجاوز ذلك والقول المعاقبة على الأعمال التحضيرية، وهو الشرط الرئيسي للمعاقبة على الأفعال المجرمة، ويتصل الركن المادي أيضاً بالحريات العامة ، ذلك أن اشتراط ارتكاب الفعل المادي من شأنه أن يحصر سلطة الدولة في العقاب في مجال معقول ، وأن يصون الأفراد عن مؤاخذتهم عما انطوت عليه ضمائرهم وما جال بخواطرهم، كما يتصل الركن المادي للجريمة بأسس الإثبات الجنائي : فإنه إذا كان لا جريمة بغير ركن مادي ؛ فإنه أيضاً لا عقوبة بغير حكم قضائي. والحكم القضائي الصادر بالإدانة يجب أن ينهض على أدلة تثبت وقوع الفعل المجرم ونسبته إلى مرتكبه ، وهو ما لا يتأتى بغير وجود مادي لهذا الفعل، على نحو يسهل على سلطات التحقيق والمحاكمة التحقق منه وإقامة الدليل عليه.

إن تحديد ماهية الفعل على نحو واضح ودقيق هو في الواقع قيد على السلطة التشريعية ، وتؤدى مخالفة هذه القاعدة إلى أن يكون النص مشوباً بعيب عدم الدستورية لغموضه،  وإيضاح ماهية الفعل على نحو واضح ودقيق هو الذي يميز بين التوسع المسموح به في مدلول هذا الفعل والتوسع الذي يؤدى إلى إضافة أفعال أخرى بما يؤدى إلى خلق جرائم أخرى.[6] وإن هذا التجريم والعقاب على هذا النحو ينال من حقوق الأفراد وحرياتهم، ومن شأن عدم وجود ضوابط على سلطة الشارع أو عدم فاعليتها أن يهدد بالافتئات على هذه الحقوق ، وأن يجعل مركز الفرد ضعيفاً تجاه الدولة.ومن جهة أخرى فإن من شأن وجود هذه الضوابط أن تؤدى إلى تدعيم الثقة بين الحكام والمحكومين.

ومن هنا نستطيع أن نوجز القول بأن هذا النص بما ورد فيه من ألفاظ عامة”  كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياه الخاصة “.  يستحيل ضبطها، ويسهل تأويلها والتحميل عليها بأكثر من معنى، وبالتالي فهي تبعد كل البعد عن أي معايير فقهية أو دستورية منظمة لحدود التجريم، وبالتالي القدرة على إخراج الفعل من دائرة المباح إلى دوائر الحظر والتجريم، وهي ما يقتضي أن يُفرض عليها عقوبات.

وهذا ما يتعارض بشكل رئيسي مع مواد الدستور المصري، خصوصا المواد أرقام 57 ، من نصها على حماية الحياة الخاصة، وحرمتها، المادة 59 من نصها على حق الإنسان في حياة آمنة ، والمواد أرقام  94 و95 و 96 الواردة بالباب الرابع من الدستور المصري الأخير، وهي المعنية بسيادة القانون وشخصية العقوبة، وأن الأصل في الإنسان البراءة، وهو المبدأ الحاكم لكافة المحاكمات الجنائية  في كافة النظم الجنائية، كما وأنها تشكل تعدي على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين والحرية الشخصية والتي جرمها الشارع الدستوري بنص المادة 99 من الدستور المصري الأخير لسنة 2014 .


[1]     –  دراسة بعنوان القيم، مفهومها، نشأتها واكتسابه ، 09 Octobre 2017 : نشر في موقع educapsy.

[2]     – راجع في ذلك قوانين خنق المجال العام ، مؤسسة نضال للحقوق والحريات الدستورية– طارق عبد العال المحامي – ص 17 وما بعدها – سنة 2018 .

[3]         – القضية رقم 48 لسنة 17 قضائية دستورية ، جلسة 22 فبراير سنة 1977 . نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 10 في 6/3/1997 . والقضية رقم 84 لسنة 17 قضائية دستورية ، جلسة 15 مارس سنة 1997 . نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 13 في 27/3/1997 .

[4]         – القضية رقم 48 لسنة 17 قضائية دستورية ، جلسة 22 فبراير سنة 1977 . نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 10 في 6/3/1997 . والقضية رقم 84 لسنة 17 قضائية دستورية ، جلسة 15 مارس سنة 1997 . نشر بالجريدة الرسمية العدد رقم 13 في 27/3/1997 .

[5]         – حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بجلسة 2 / 1 / 1993، في القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية دستورية. ج 5 / 2 ص 103.

[6]         – د / أشرف شمس الدين – بحث عن الضوابط الدستورية لنصوص التجريم و العقاب فى قضاء المحكمة الدستورية العليا، منشور على الشبكة الإلكترونية.